هل سبق وأن تعرّيت بالكامل؟ هل سبق وأن شاهدت تركيبة جسدك وتفصيلاته دون وجل أو خجل؟ هل شاهدت جسدك في عريه؟ هل تساءلت عن انتماءاتك الجنسية والجنساوية؟ هل أعطيت جسدك حقه؟ هل تساءلت عن الفرق بين جسد «المومس» وجسد «العفيفة»، هل مارست حب جسدك علنا دون حياء؟ ربما تكون الاجابة لا؟ ولكن رشدي بلقاسمي بجسده أجاب عن كل هذه الاسئلة.. بجسده تصالح مع كل المفاهيم، كتب أسطرا في المحرم وداس على المدنّس وحفر في المنسيّ وكشف الستارة عن المحظور فينا وفي داخلنا.. بجسده جسّد رشدي بلقاسمي مقولة مارليبونتي «أنا لست أمام جسدي ولا في جسدي، بل أنا جسدي». في فضاء مميز وجد خاص كان الموعد مع «عروس وسلات»، العروس حدثتنا عن تونس عن الحرب الأهلية الحسينية، عن ملامح الوطن المنسي في «عروس وسلات» اتحد كل من رشدي بلقاسمي وصهيب الوسلاتي ورياض التوتي وأسامة السعيدي ونعيم بن عبد الله ليكتبوا نصا جريئا ويقدموا عرضا يتحرر فيه الجسد من كل القيود.
العرض الصدمة…الجسد حمّال ألوية وعنوان للمقدّس والمدنّس
المكان حمام الطمّارين، الحدث عرض «عروس وسلات».. رائحة البخور تنتشر في المكان تماما كما كل حمّام.. صوت أنثوي يتحدث بشبقية صوت ضاع وسط ضجيج الجمهور ولكنه لامرأة تتحدث عن عطشها إلى الجنس، امرأة متعطشة لممارسة الجنس حتى تشبع رغبة جسدها.. ربما الفنان يحضّر جمهوره نفسيا لما سيجده في الداخل. للمتفرج أن يسأل عن سر تقديم العرض في فضاء الحمام، حينها سترحل المخيلة حتما الى رمزية الحمام، فضاء طمر المدنس.. فضاء يحدث داخله كل ما ينعت أحيانا «بالعيب».. هو الفضاء الذي تتعرى داخله الأجساد نسوية كانت أو رجالية دون خجل، في الحمّام يحدث الكثير.. في الحمّام تنتهك حرمة الأجساد أحيانا.. في الحمّام يغتصب البعض وتدنس الكثير من المفاهيم، في الحمّام رقص رشدي بلقاسمي، انتفض على الخطوط الحمراء وتجاوزها، تجاوز الايحاء الى التجسيد. في الباب يستقبل صهيب وسلاتي الجمهور مرحبا به «زوزو زارتنا البركة»، ثم يسألهم عن سر مجيئهم، يتحدث اليهم بكل جرأة ينظر في العيون، يتحدث عن الجنسانية ويكشف التاريخ الذي لم يكتب أو بالأحرى الذي «خجل» البعض من كتابته «وإللّي حروفو حاشمة على روحها» كما يقول نص «عروس وسلات». داخل الحمّام عروس تضع غطاء طويلا يغطي رأسها ووجهها، وفي يديها تلبس القفازين وكأنها مخضبة بالحناء، الكل لبس الاحمر في رمزية الاحمر الى «الدم» الى الجنس و«الليلة الحمراء» في المخيال الشعبي التونسي، يوجّه صهيب الوسلاتي كلامه الى جمهوره، يتلوى وهو يتحدث، يتحرك في اشارة الى أن المتحدث مخنث، في الحمّام يخرج سالم ولد خضراء من طي النسيان ينفض عنه غبار السنين ليحدث الجمهور عنه، عن حرب وسلات عن الحرب الأهلية الحسينية وعما نسيه التاريخ.. يحدثهم عن الجنس عن الجسد وحدوده عن «مواخير الرجال» ومواخير النساء. هنا ينتفض الجسد وينفض عنه غبار النسيان، في العرض سالمان.. سالم الأول يتحدث عن تاريخه مستعملا نصا جريئا كتب باللهجة التونسية، جرأة النص يصاحبها جرأة القارئ في حركته ودلاله في لفظ بعض العبارات ذات الايحاءات الجنسية، أما سالم الثاني فأشد جرأة من الأول سالم الآخر نقل ما كتب بجسده، سالم الثاني حاول تطويع اللغة بحركات جسده فتجاوزها وحلق بالحضور الى دواخلهم لطرح الاسئلة عن علاقتهم باجسادهم.
لن نتصالح مع تاريخنا قبل المصالحة مع أجسادنا
داخل الحمّام «البخور يعجعج» صوت الموسيقى يرتفع تدريجيا لتحمل المخيلة الى الجو العام للحمّام، ستجدك أمام أجساد نصف عارية وأخرى عارية تماما، أنت في حمام النساء، هذه تضع البخور وأخرى تدلك جسدها رويدا وثالثة تعيش لحظات من الشبق مع جسمها المنسي.. لهنّ فلسفتهن الخاصة في التعامل مع الجسد، الحمّام قد يتحوّل الى «ماخور» بمجرد حديث سالم عن «أمه خضراء». بطل الحكاية هذه المرة «سالم ولد خضراء»، وُلد «سالم» في جبل وسلات وسط النساء «حنة وحرقوس دايرين بيّ»، ولد سالم سالما، «جيت لها الدنيا سالم نحكم بإحكامي» كما يقول النص، ليرث بعدها أمه «خضراء» في عملها، فهي تعمل في ماخور للنساء، ويصبح سالم مطلب الزبائن ويفتك الزبائن من النسوة لأنه أكثر امتاعا.. في الحوار الجريء يكشف النص عن مواخير الرجال والشذوذ الجنسي. يصمت الجميع، ربما يحاول سالم شحن ذاكرته، ولكن في المقابل يرتفع صوت الدربوكة، تلك الآلة الايقاعية ستكون رمز الشهوة والخطيئة، موسيقاها المرتفعة كأنها عنوان لشهوة متدفقة الى جسد آخر، وتجاوبا مع نغماتها يتحرك جسد سالم الاخر، جسد رشدي بلقاسمي ليواصل حكاية سالم، ينتفض الجسد، يرقص على الارض يتجاوب مع الدربوكة، يقترب منها يحاول اغراء العازف، كل قطعة من الجسد العاري ستشعرك أنها تتحرك لوحدها، حركات مغرية وإشارات وإيحاءات علّ جسد آخر يستجيب. يصطدم جسد سالم برفض الشريك، يدفعه ليسقط أرضا، فيتلوى محاولا مسك نفسه وكبت رغبته ولكن محنة الجنس تجعل من سالم يعيد الكرّة مرة واثنتان علّ الآخر يستجيب.. حركات جريئة، حوّل معها رشدي بلقاسمي الجسد المنبوذ الى الياذة للتحرر، فكأننا أمام نص جريء نتصفح كلماته دون الخوف من المحرمات والسلطة. بجسده يقول سالم، تحرروا من قيودكم، تحرروا من كلّ المكبلات، تحدثوا عن تاريخكم المنسي، في «عروس وسلات» يحملنا جسد رشدي بلقاسمي الى جبل وسلات، الى عام 1728 تحديدا تاريخ الحرب الاهلية الحسينية تلك الحرب التي دمّر فيها جبل وسلات وشرد أهله وقتل رجاله واقتيدت نساءه الى الحاضرة للعمل في الدّعارة.. يحملنا الى الصراع بين حسين بن علي وابن اخيه علي باشا تذهب الذاكرة ويستحضر سالم معاناة أبناء جبل وسلات بعد اعلانهم مساندتهم لعلي باشا في حربه ضد عمه.. الرقص عند رشدي بلقاسمي «ليس للمتعة، انه جسدي حامل للتاريخ، وبه اتحدث عن المخفي والمنسي من تاريخ تونس». يسقط الجسد مرة أخرى على القاعة يعانق قطعة الرخام التي تتوسط المكان، في سقوطه دلالة على سقوط سكان جبل وسلات في الحرب، يتحرك بقوة تماما كما كان سكان الجبل حينها في أول الحرب حين كانوا متماسكين يشدون أزر علي باشا. «يوم 20 فيفري 1728 يمثل البداية الحقيقية للحرب الأهلية التونسية، حيث هرب صبيحة ذلك اليوم علي باشا وابنه يونس من مدينة تونس إلى جبل وسلات خوفا من إعتقالهما وهنالك وجدا ترحابا ودعما كبيران كما جاء في كتاب «اتحاف أهل الزمان باخبار ملوك تونس في عهد الأمان» لابن ابي الضياف: «العيون غائرة تبحث في المجهول، الانفاس متقطعة ومتهدجة وكأنها بسكان الجبل يسألون عن الغد فالحرب قد طالت وعلي باشا هرب الى الجزائر فمن لسكان جبل وسلات؟». ترتفع من جديد نغمات الدربوكة، يزيد معها اضطراب جسد الراقص، يحمل الحضور الى افريل 1728 حين قرر حسين بن علي مهاجمة الجبل وتهجير سكانه وقتلهم، الجسد المرمي على القاعة هو رمزية للسكان المهجرين، حركاته المضطربة تحيل الى من بقوا يعاندون الفقر والجوع والتشريد ليعيشوا اليدين مكبلتين تماما كما الارادة العاجزة عن الفعل، حينها سيكون الجسد هو الحل فكثر هن اللواتي استعملن اجسادهن للعيش ومن بينهن خضراء ام سالم. في العرض يتحرر جسد سالم، يزيل كل الحدود والقيود «فلكل واحد محنة» كما جاء في النص ومحنة سالم الجسد.. جسده طريقه الى الحياة، الى الحب، الى الوجود، جسد رشدي بلقاسمي كان صوت سالم يصرخ يترجى يبكي وينتفض، يعشق ويبحث عن شبق لا ينتهي.. في العرض تجاوز الكوريغراف الايحاء الى التجسيد، عرض جد جريء.. ستجدك أمام رجل يمارس الجنس مع «قطعة من الرخام» بعد أن تعرض الى الصد، ستجدك أمام جسم ذكر يغازل جسم ذكر آخر عله يكون زبونه ويمتعه بقليل من الحب وينقص عنه تلك الشهوانية المتزايدة، ستجدك أمام جسد لا يتعب ودائم البحث عن المزيد.. جسد ترتسم ملامح الشهوة على كامله ولم تقتصر على عضو معين فهو يمارس الجنس بعينه ولسانه ويديه وكامل حركاته، سيصدمك ويفاجأك ويجعلك تتساءل عن علاقتك بجسدك. في «عروس وسلات» فلسفة جديدة تبحث في علاقة الجسد بالتاريخ، الجسد هنا حمّال رسائل سياسية.. الجسد أداة للنبش في التاريخ وإحياء المنسيين.. في «عروس وسلات» يندفع رشدي بلقاسمي بجسده للغوص في المحظور والكشف عن المخفي وطرح السؤال عن التاريخ، في عروس وسلات بحث متجدد عن مفهوم الجسد ومحاولة لارساء فلسفة جديدة تفكك شيفرات الجسد.