قد لا يعرف البعض منا أنّ كلمة «زوفري» العامية بما تعنيه في قاموس عاميتنا من عربدة وصعلكة وانحراف هي اشتقاق من الكلمة الفرنسية «لوفريي» (l’ouvrier) أي العامل… من صميم هذا الانحراف اللغوي انطلقت فكرة عرض «زوفري» للراقص ومصمم الكوريغرافيا رشدي بلقاسمي والذي قُدّم في افتتاح الدورة الثانية لتظاهرة « سولستيس الرقص » بفضاء الارتيستو..
فعلى حلبة رقص مرتجلة، حاكى بلقاسمي رقصة عملة المصانع أو حمالي الموانئ الذين كانوا يبتدعون عالما خاصا من نوعه، تتحرر فيه أجسادهم على وقع الربوخ التونسي (موسيقى تجمع بين الزكرة والطبلة والدربوكة) فتعبر رقصتهم، ذات الحركات المميزة، عن كل ما يمكن أن يسكن أعماقهم من رغبات غير مشبعة ومن حرمان عاطفي ومن توق الى إثبات ذوات أخرى غير تلك التي أنهكتها الحياة مشقة وضيما وفاقة.
يُجنّح رشدي بلقاسمي بيديه قبل أن يخلع جمّازته «الدنقري» الزرقاء في خطوة إضافية نحو التحرر من الطقوس اليومية التي تثقل الكواهل، ثمّ يتماهى مع إيقاع «الربوخ»، هذا النمط الموسيقي الذي ذاع صيته قبل الاستقلال ومازال الى الآن ركنا قارّا في الاحتفالات الشعبية. فيُخيّل لنا أنّه بصدد الرقص في ميناء مهجور أو عند سفح جبل قفر بكل ما يمكن أن توحي به العزلة الليلية من أحاسيس نشوة متضاربة.
ولعلّ اللافت للانتباه في عرض «زوفري» هو ذلك الكم الهائل من الصور التي تستحضرها حركات رشدي بلقاسمي الراقصة، إذ لمحنا مشاهد بروح تونسية بحتة من أسواقنا الشعبية ومن حفلات الأعراس وأيضا من عراكنا اليومي بكل ما تتضمنه من تعابير جسدية «سوقية» فضلا عن الجانب الجمالي المميز للرقص التونسي الشعبي، ألم يقل الفيلسوف الإيطالي قرامتشي أنّ « الفرد ليس أمامه الا الرقص في المربع » في إشارة لدور الثقافة كقوة مركزية في المجتمع أكثر من أي سلطة أخرى…
ولأنّ الرقص ليس بتعبيرة فردية فقط، استدعى رشدي بلقاسمي عددا من الحاضرين ليرافقوه على وقع الربوخ الراقص، فالتهبت الحلبة حركة وإحساسا وإيقاعا ليختزل ذلك « الإهتزاز الجماعي » كل ما يمكن أن يسكن الكيانات من طاقة مخزونة تنتظر الفرصة لتتفجّر.
وفي الجزء الأخير من عرضه، يأخذ رشدي بلقاسمي الكلمة ليؤكد على بعد «المقاومة» في عمله الفني، فالرقص والرقاص غير معترف بهما كمهنة فنية بأتمّ معنى الكلمة في مجتمعنا وفي عديد المجتمعات العربية، وهو ما يتطلب المثابرة ومواصلة العمل لأنّ الرقص جزء لا يتجزأ من حياتنا وهو أيضا من الأشكال الفنية الأكثر تعبيرا عمّا يمكن أن يشغل المجتمع من قضايا.
في عرض «زوفري» استحضر رشدي بلقاسمي المهمشين الذين اختاروا الجسد ليعبروا راقصين عن كل ما يخالج صدورهم من رغبة في التحرر بعيدا عن القيود والممنوعات الاجتماعية، فجنّح عاليا بتعابير تونسية الروح والمنبع ليرسّخ في أذهاننا صورا لا يجب أن تمحى من الذاكرة الجماعية… ذاكرة شعب آمن بالحرية رغم ضيق الثنايا وصلابة القيود.
شيراز بن مراد
https://www.jomhouria.com/art3373_