رشدي بالقاسمي في « عروس وسلات »: يرقص حتى لا نتوه عن جنسانيّتنا

في كتابه عن تاريخ الرّقص، تحدّث جاك بوني Jaques Bonet عن هذا الفنّ من زاويتيه المقدّسة والمدنّسة. يعود كتابه Histoire générale de la danse sacrée et profane إلى بدايات القرن الثّامن عشر باسطا فيه تاريخ الرقص منذ العصور القديمة الى راهنيّة عصره ناقدا ومحلّلا لواقع الرّقص حينذاك. هذه البداية ليست بالضرورة مهمّة لقارئ ينتظر حسب العنوان، لقراءة لعمل « عروس وسلات » لرشدي بالقاسمي، لكنّ العودة الى أصول نظريّة في مثل هذه الحالات، من الممكن أن تشكّل ملاذا للإنطلاق في فهم عمل فنيّ أقلّ ما يمكن القول عنه، هو أنّه حمّال للمعاني ومتشعّب المحاور والمقاربات. سيساعدنا هذا الكتاب في أطر أخرى، ولكنّه في هذه الحالة سينقذنا من خلط من الممكن أن نقع فيه أثناء مشاهدة « عروس وسلات »، وهو خلط بين الرّقص كفنّ نبيل وإيحاءاته التي من الممكن أن لا تتماشى وقناعات شعب أو مجتمع أو عالم بأسره، وسيساعدنا على الاقتراب بشكل أدقّ إلى فكرة المدنّس الذي باستطاعنا أن نصنع منه فنّا، المدنّس « البريء » والذي أصبح غولا بفعل ثقافيّ بحت (نتحدّث هنا عن الثقافة بماهي نمط عيش ونمط تفكير)، والمدنّس، بما هو عالم لم يقترب منه سوى « المجانين »، كلّ من امتلأوا بشغف كشف المستور والنّبش عن الغامض من القصص التي لا تروى سوى في عتمة الأركان. ليس غريبا حين نتحدّث عن ثنائيّة الرّقص والمدنّس أن يكون الجسد هو محور القصّة، الجسد بكلّ ما يمكن أن يحمله من إيحاءات وبكلّ ما يمكن أن يأخذنا إليه من عوالم، الجسد بما هو آلة للزّمن انطلقنا في اكتشافها منذ سنة 2012 مع رشدي بالقاسمي.

الجسد الرّاقص والجسد الشخصّيّة

كلّنا يعلم أنّ قصّة رشدي بالقاسمي مع الرّقص انطلقت منذ نعومة أظافره، لكنّ قصّتنا مع رقصه عرفت الضوء سنة 2012 مع عرض « جسد مهووس »أين احتفى بالجسد ودوره في مساءلة الذّات على الطريقة النيتشويّة، هذا الذي جعل من الجسد قائدا عظيما ومحرّكا لكلّ شيء من حوله. لن يساعدنا نيتشه هنا بقدر زوربا في قوله :

الرقص هو الانتفاض ..هو التشظّي .. هو الردّ المضاد ضد التنميط والتقولب والتحنيط .. لاأحد قادر على تنميطنا – نحن الشّباب- سنتقافز كالخيول غير المدرّبة لإسقاط من حاول لجمنا..

ولا نعرف إن كان لهذه المقولة أن تفسّر كلّ شيء عن عمل رشدي ونظرته للرّقص، لكنّ الأكيد أنّها تختزل مراحل طويلة في قراءة رغبته الجامحة في كسر القيود باختلاف أنواعها، ولعلّ أهمّها السّائد من النظرة الدونيّة للجسد كمصدر أساسيّ للرذيلة والفحش. لابدّ أن نوضّح قبل الانغماس في التّحليل، أنّنا لسنا بصدد الحديث عن الجسد الرّاقص في صورته المجرّدة، فقد تحوّل هذا الأخير الى مشهد عاديّ ومألوف عبر العصور وإن كان للبعض ألّا يقبلوه، لكنّنا نتحدّث عن طريقة معيّنة للرّقص، لم يختصّ بها رشدي لكنّه نبش عنها ونفض عنها غبار النّسيان أو التّناسي بالأحرى، فهو يتمايل في أعماله بأنثويّة عالية حدّ الاستفزاز أو الاستنكار، ويختار لعروضه ألبسة وأكسسوارات تبدو لنا سرياليّة لكنّنا نقبلها بمجرّد البحث في تاريخيّتها، ليكون الرّقص هنا عملا فنيّا وموثّقا لعصور وجدت فيها أناس لم تخجل بما هي عليه. تتحوّل هذه النّاس التي وجدت في عصور سابقة إلى شخصيّات يتقمّصها رشدي فيعيد لها الحياة وأكثر من الحياة، هو يعيد لها اعتبارا لم تنله حيث عاشت وبالتالي انتصارا كان من الممكن أن تشعر به نظرا لاستثنائيّتها. من هنا تبدأ حرب هذا الفنّان في الاستفزاز، لأنّه يقدّم هذه الاستثنائيّة على أنّها طبيعيّة، أمر لو فهمه معاصروا هؤلاء الأشخاص لما عاملوهم بنفس الاستهزاء أو الاحتقار، ولما جعلوا منهم ذلك المدنّس الذي توارثنا تعريفه وبقينا إمّا رافضين نصدّه أو محترزين لا نقربه. تطوَرت شخصيّات رشدي في عروضه من « زوفري » (2013)، أين تقمّص شخصيّة العمّال والبحّارة دون أن يكتفي بذلك جاعلا كلّ جمهور يحضر إلى مجموعة من الصيّادين في وقت الفراغ أو عمّال بناء حين يأخذ بهم التعب والملل إلى ارتجال رقصات فيها من الإيحاءات الجنسيّة ما ينفّس عن شعورهم الدائم بالاختناق والكبت. تطوّرت الأمور لتتخّذ مساحة أكثر مباشراتيّة مع عرض « اذا عصيتم » (2014) وعرض « ولاد جلّابة » (2016)، أين نواجه دون أقنعة كلّ أسئلتنا الدفينة حول مسألة النّوع، هذه الحتميّة الثقافيّة التي يرجّها راقصنا دون سابق انذار أو تمهيد، مقدّما لنا إيّاها بكلّ تفاصيلها المشهديّة والركحيّة. في « عروس وسلات » (2017)، لن نقول أنّ المباشراتية قد وصلت إلى أوجها أو إلى أقصى ما يمكن تجسيده، لكنّنا سنتأكّد عند المشاهدة أن لا حدود لإبداع رشدي بالقاسمي، وإذا اعتبر البعض أنّ ما يقدّمه ليس سوى تكرارا لنفس الأفكار، فسنقول بأنّه لا حدود لرغبة هذا الرّجل في الدّفاع عن أشخاص لولاه لما علمنا عن فكرة وجودهم، ولا حدود أيضا لتماديه في الاستفزاز للعقول الرّاكدة وفي دفاعه عن الجسد في كلّ حالاته، نسويّا كان أو ذكوريّا أو الاثنين معا.

الرّقص الجنساني : من الإيحاء إلى التجسيد المباشر

قدّم رشدي بالقاسمي عرضه الأخير « عروس وسلات » ضمن فعاليّات الدّورة السادسة لمهرجان « دريم سيتي Dream City . عرض مستلهم من المدينة العتيقة، معقل للأسرار والقصص الغامضة، ومقدّم بالأساس لسكّانها ثم لبقيّة الجمهور باستثناء من تقلّ أعمارهم عن الستة عشر سنة.عرض قبل الدخول في وصفه، لابدّ أن نصف إطاره المكانيّ لما شكّله من جزء هامّ ومحدّد في العرض. « حمّام التمّارين » هو حمّام لا يعرف عنه الجيل الجديد لضاحية »باب الجديد » شيئا، فهو مغلق منذ سنين طويلة. أعاد رشدي إحياءه صحبة مجموعة من الرّاقصين هذه المرّة، كما يحيي الشخصيّات التي تأثّثه ويأتي بها من العهدين الحسيني والحفصي. الحمّام » مقبرة المحضور في الثقافة التونسيّة، يصبح مكانا عامّا ومسرحا لأحداث حقيقيّة كانت ولا تزال ربّما تحصل فيه دون أن تكون محور أحاديث العموم في الهواء الطّلق، كما هو شأن المدنّس الذي ذكرناه سابقا وسنواصل ذكره. ففي قلب هذا المدنّس، عاش سالم كبائع للهوى، الحرفة الوحيدة التي تعلّمها خلال عيشه بين بنات اللّيل. خلال العرض نشاهد سالمين، الأوّل هو سالم الذي يتجوّل بين الجمهور ساردا قصّته من خلال نصّ كتب بالعاميّة التونسيّة، والثاني هو سالم الذي يخرج منه ساردا نفس القصّة لكن من خلال الرّقص، وليس أيّ رقص. لم نتوقّف في ذكرنا لمنع العرض عن الأقل من الستة عشر على الأسباب المحيطة بهذا القرار، وهو أمر لم يتحدّث فيه رشدي لكنّه يبات واضحا عند المشاهدة.فقد حلّق رشدي ب »عروس وسلات » إلى مراحل عالية من الجنسانيّة برقصه الذي لم يتوقّف هذه المرّة عند الإيحاء، إنّما تجاوز مراحل التعبير الجسديّ إلى التجسيد المباشر بطريقة ينصهر فيها الرّقص وممارسة الجنس فيتحوّلا إلى واحد يصعب اذا لم يستحل فصلهما عن بعضهما لا بالعين المجرّدة ولا حتّى بجهازنا الإدراكيّ. لنعد قليلا إلى الجانب النظريّ المتعلّق بهذا الموضوع، لنجد العديد من نقاط الاختلاف بين هذين الفعلين، أوّلهما أنّ الحركة المثاليّة هي فعل رئيسيّ في عمليّة الرقص لنضمن مشهدا متناسقا ومتوازنا وبالتالي جميلا، لكنّها ليست محدّدا في الفعل الجنسيّ، لأنّه عمليّة تعلّم بالأساس، يصل بنا إلى أقصى درجات المتعة بتناغم الجسدين وقدرتهما على التكامل ليس أكثر، كما أنّ العلاقة في الرّقص، هي علاقة بين قائد ومقتاد أما العلاقة الجنسيّة فتتراوح وتنقلب فيها الأدوار فيها بين مسيطر ومسيطر عليه Dominant/Dominé، هذا بالإضافة إلى نقطة الخجل أو الحياء، فنحن ربّما نخجل من الرّقص أمام العموم، لكنّنا لا نشعر بنفس الحياء حين نرقص جنسا. مافعله رشدي بالقاسمي لا يتموقع طبعا هنا، لكنّه يتموقع في نقاط التشابه بين هذين الفعلين، فالحركات التي تميّز بها هذا العرض من تمايل خصر بشكل حسّاس ومغر، يجسّد حرفيّا منطق التوزيع la diffusion في الجنس، حيث يتدافع الجسدين من أجل نشر شعور النشوة في كامل الجسد دون حصرها في مكان واحد (الأعضاء التناسليّة)، شعور تجاوز جسد رشدي المتمايل بشغف إلى كلّ الحضور، لتكون النشوة شعورا مشاعا ومشتركا تمّ تقديمه بشكل مجانيّ، كل هذا بالإضافة إلى تجسيد فكرة الاستماع الجسدي l’écoute corporelle، حيث على عكس ثنائيّات الرّقص التي تجمع بين شخصين، جمع رشدي بالقاسمي في « عروس وسلات » بينه وبين الموسيقى، جاعلا من جسده مصغيا متأنّيا لكلّ نوتة وإيقاع كما يستمع جسد لمناجاة الآخر وحاجياته أثناء ممارسة للحبّ. « عروس وسلات »، هو رحلة في دواخلنا المقيّدة مهما تحرّرت، يثبت أنّ التّصالح مع الذّات أمر خرافيّ يمكن تحقيقه وهو أيضا عمل أصبح من خلاله رشدي بالقاسمي مرجعا ليس فقط تاريخيّا، إنّما فنيّا أيضا، وهو العنوان الاستثنائي لجنسانيّة الرّقص في جميع أبعاده.

شيماء العبيدي
05-10-2017