رشدي بلقاسمي: الرقص يمحو الحدود بين فضاء الأنثى وفضاء الذكر

يقول الروائي نيكوس كازانتزاكيس على لسان بطل رواية زوربا اليوناني “يبدو لي، هكذا أنني أفهم شيئا ما، لكن لو حاولت أن أقوله لهدمت كل شيء، وذات يوم عندما أكون مستعدا سأرقصه لك”. كثيرون من اختاروا عن وعي ودراية التعبير بواسطة الجسد الحي كلغة كونية فنية وجمالية لإيصال أفكارهم ضمن فلسفة جسدية شاملة ومن بين هؤلاء المسرحي التونسي رشدي بلقاسمي الذي كان لـ”العرب” هذا الحوار معه. يقدم رشدي بلقاسمي نفسه لـ”العرب” بأنه راقص وكوريغراف معاصر تونسي، متخرج في المعهد العالي للفن المسرحي بتونس، حيث تكوَّن على يد أكبر الكوريغرافيين التونسيين. قدم بلقاسمي على مدى مسيرته العديد من الأعمال المندرجة تحت جنس الكوريغرافيا، نذكر منها عرض “تخميرة” 2011، و”زوفري” 2013، و”وإذا عصيتم…” 2015 و”ولد الجلابة” 2017. وهو كوريغراف لأعمال مسرحية وفرجوية متنوعة مثل “ستربتيز” لمعز المرابط وعرضي “المنسية” و”الزقلامة” للأسعد بن عبدالله، ومن آخر إنتاجاته الفنية “عروس وسلات” وهي كوريغرافيا من إنتاج جمعية فن الشارع والتي قدمت مؤخرا ضمن برمجة تظاهرة “دريم سيتي” لفن الشارع. تحصل رشدي بلقاسمي على العديد من الجوائز من بينها جائزة منظمة رومبورغ للفن والثقافة بتونس 2016 والصندوق العربي للفن والثقافة بلبنان 2016 وجمعية إكسيونزواومان البلجيكية 2015. كما صعد على أهم المسارح في العالم كالمسرح الوطني الفلسطيني بالقدس المحتلة والمسرح الوطني العراقي ببغداد والمسرح الملكي بالأردن والمسرح الأثري بقرطاج ومسرح الحمامات ومسرح الحرية بفرنسا وأوبيرا قان ببلجيكا ومعهد ثقافات الإسلام بفرنسا ومعهد العالم العربي بفرنسا، والعديد من المسارح والفضاءات الأخرى. الرقص الخطير كان رشدي بلقاسمي حاضرا في أهم مهرجانات الرقص بالعالم كمهرجان الرقص المعاصر برام الله، مهرجان نمشي للرقص المعاصر بمراكش، والسوق العالمية لفنون العرض بأبيدجان، ومهرجان الرقص المعاصر بواقادوقو، ومهرجان جسد وحركة بالكامرون، ومهرجان الرقص المعاصر بالتشاد، والمهرجان الإغريقي ببرشلونة، ومهرجان أفينيون، وغيرها. ويقول ضيفنا “اشتغلت لمدة أربع سنوات كأستاذ رقص مسرحي بالمعهد العالي للفن المسرحي، وكذلك في العديد من المعاهد العليا والمدارس المحترفة، كما أمَّنت العديد من التربصات داخل تونس وخارجها. وتسلمت سنة 2014 مهمة أول عضو ممثل للرقص التونسي في المجلس الأعلى للرقص باليونسكو”. وعن بداياته مع “فن الرقص” يقول بلقاسمي “منذ سن العاشرة وفرت لي عائلتي أرضية مساعدة على التعبير بجسدي، فكانت هي الحاضنة الأولى لي، حيث كنت دائما أرقص وأعبر عن فرحي بواسطة جسدي، وبعد انتقالي إلى تونس العاصمة للدراسة بالمعهد العالي للفن المسرحي، التقيت بالعديد من المبدعين من بينهم نوال إسكندراني وملاك السباعي وغيرهما ثم التقيت بخيرة عبيدالله التي غيرت لي نظرتي حول الرقص الشعبي حيث أنني لم أكن أتصور أن الرقص الشعبي مصدر إلهام كبير وشكل تعبير حي وقريب من الناس، وهو كذلك عالم مليء بالعلامات والدلالات التي نهل منها الرقص المعاصر”. ويتابع بلقاسمي “المواطن التونسي يرقص لكنه بعيد عن الرقص كظاهرة فنية واعية، بل هو يمارسه بشكل عفوي واحتفالي أو ردة فعل للتعبير عن مشاركته للآخر لحظات من الفرح في الأعراس والحفلات الخاصة أو يمارسه للترويح عن النفس. وكأننا هنا أمام فكرة نيتشه القائلة ‘علينا أن نعتبر كل يوم يمر دون رقص يوما ضائعا… وعلينا أن نعتبر أن كل حقيقة تقال دون ضحكة هي حقيقة زائفة‘. فالرقص هو أم الفنون ورؤية للعالم وإثبات الإنسان لذاته يتحقق كذلك من خلال تواجده الجسدي الراقص والنشيط والجميل، الجسد الفرح. لنترك الجسد يعبر بشكل حر دون تعقيد وتكبيل فالجسد هو العقل الكبير وله الحق في الإفصاح عن إبداعاته الحركية”. فن الرقص من أقدم الفنون التي عرفها الإنسان الأول للتعبير عن حاجاته وهو الفن الأم لجميع الفنون الأخرى ويواصل رشدي مؤكدا أن الرقص هو فن مستقل بذاته ولذاته. فنحن، كما يقول، نولد نتيجة علاقة بين جسدين، ونخرج للحياة من جسد، ونتعلق بجسد، للجسد حضور حقيقي وحميمي. مازالت المجتمعات العربية تنظر إلى الجسد نظرة مخجلة وتراه مدنسا ويجب ستره، إلا أن الجسد يجب أن يوجد بشكل كبير ويستقل ويأخذ أبعاده الحقيقية كمصدر لكل ملذات الحياة ومصدر للجمال والإبداع، بل إن كل الخلق الإبداعي ينتجه الجسد بكل مكوناته. فالرقص له أن يعالج مسائل سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية، وبإمكانه أن يبني ثقافات وحضارات ويحرر شعوبا”. الرقص وزرادشت عن سؤالنا حول الكيفية التي يشتغل من خلالها في أعماله الإبداعية، يجيب رشدي بلقاسمي “أنا أعمل على الحدود الزائفة بين الجسد الأنثى والجسد الذكر. أنا أخلق جسدا إنسانيا بامتياز، جسد يجمع الجسد الأنثى والذكر في الآن نفسه بأسلوب استفزازي صدامي يخلق الرجة لدى المتقبل حتى يقبل بعد ذلك جسده، ويتصالح مع ذاته، ويصبح قادرا على احترام أجساد الآخرين”. الرقص فن يمكنه أن يعالج مسائل سياسية واجتماعية وفكرية، وبإمكانه أن يبني ثقافات وحضارات ويحرر شعوبا كما يقول بلقاسمي “أنا أشعر بالعيش عندما أرقص على الركح، أما في الحياة اليومية أخلق حدودا لنفسي وأتحرك داخل تلك الحدود. والرقص بالنسبة إلي هو التزام ومسؤولية حيث أن الجسد اليوم هو جوهر الوجود، ضد ما نراه من حرق الجسد، أو تعريته وستره، أو التخلص منه عبر الانتحار، والمتاجرة به وبأعضائه.. فعلينا كمدعين إنصاف الجسد وإعادة الاعتبار له. فأنا عندما أرقص، أرقص على حبال المخاطرة نشدانا للحياة”. ويقول بلقاسمي “في النهاية أنا جسدي إذا أنا أفكر وموجود. ولنا الرقص لكي لا نموت في رتابة الحياة اليومية والنظرة الدونية للجسد. مثلما يقول نيتشه ‘إن ما يجب أن أؤمن به يجب أن يكون راقصا‘. إذ يعتبر الرقص فنا، هو فن إنساني بامتياز جوهره الحضور الجسدي الحي والواعي والموجه للعرض أمام الجمهور، وهو كذلك نوع من أنواع التعبير والتفكير والمحاكاة وطرح التساؤلات”. ويشدد بلقاسمي على أن فن الرقص من أقدم الفنون التي عرفها الإنسان الأول للتعبير عن حاجاته وهو الفن الأم لجميع الفنون الأخرى، ومصطلح الرقص يطلق على جميع أنواع الأداء المتصل بالحركة مع الإيقاع، وهو بمثابة تنظيم حركي في الفراغ، وتنظيم حركي في الزمن، إنه فن زماني ومكاني. يختلف من بلد إلى بلد، ويقوم من واقع البيئة ومن عادات الشعوب ولا يرتبط بقواعد عالمية. ولأن زرادشت كذلك قد نادى من الأعالي من الجبال « إن الجسد السليم يتكلم بكل إخلاص وبكل صفاء، فهو كالدعامة المربعة من الرأس حتى القدم، وليس بيانه إلا إفصاحا عن معنى الأرض. ما الجسد إلا مجموعة آلات مؤتلفة للعقل. إن ما يجب أن أومن به يجب أن يكون راقصا ». ويقول بلقاسمي “الرقص لديه هو عنفوان الإنسان، والتحدي لرتابة إيقاع الوجود. الرقص تنويع على إيقاع الوجود وتجاوز له، ذلك أن الإنسان يجب أن يهيمن على الغابات وعلى الجبال وأن يصطاد فرائسه بالنسور وأن يلعب الأفعى بيده وأن يبحث عن الخطر ليلجه. الرقص منذر بالخطر، ذلك أن الأقدام الرشيقة التي ترقص هي الأقدام التي تجرّ الجيش وتقرع طبول الحرب”. ويتابع ضيفنا “يمر زرادشت بالغابة، ومعه صحبه، وهو يفتش عن ينبوع بين الأشجار والأدغال، وكان هناك رهط من الصبايا يرقصن بعيدا عن أعين الرقباء، وإذا لمحْن القادم توقفن عن الرقص، ولكن زرادشت اقترب منهن قائلا ‘داومن على رقصكنّ، أيتها الآنسات الجميلات، فما القادم بمزعج للفرحين، وما هو بعدو الصبايا. فهل يسعني أن أكون عدوا، لما فيكنّ من بهاء ورشاقة وخفة روح. وهل لي أن أكون عدوا للرقص الذي ترسمه هذه الأقدام الضوامر الرشيقات؟‘ فالرقص التعبير الناصع عن قوة الإرادة وعن ‘العود الأبدي‘ المفهوم النيتشوي العتيد”. الرقص فن يمكنه أن يعالج مسائل سياسية واجتماعية وفكرية، وبإمكانه أن يبني ثقافات وحضارات ويحرر شعوبا

عماد المي
13-10-2017